صحيفة الحياة ٦ / ١٠ / ٢٠١٠
يقيم الرسام السوري نصر ورور معرضاً لأعماله التشكيلية في صالة مسرح بابل في بيروت، بالتعاون مع غاليري "البارح" (البحرين). يستمر المعرض من 7 الشهر الجاري الى 24 منه، والمعرض عنوانه "غبارنا الطلع". ننشر هنا كلمة كتبها الرسام السوري الياس الزيات مقدّماً فيها الفنان وأعماله.
هل من يحمل الراية..؟
يطأ نصر ورور على درب مهَّد له هو نفسه حين رأى أن يلتزم بملء كيانه قضيّةً بانت له مذ كان يرنو إلى فن يحقق شمولاً في كليَّةِ الفكرة والطرح وجلاء المعنى. وكأن نصراً عرف أن مسيرة ذلك الدرب تحتاج إلى معرفة أبجدية حاذقة، مقروءة باللغة التي عرفها الشعر والموسيقى، لغة العمارة بتجريدها والموسيقى بإيقاعاتها وتلوّناتها والشعر بمدلولاته الرمزية والتصوفية. يأتي نصر ورور من الاتقان المجبول بما قدّمنا من معرفة رصينة. وتلك المعرفة حدسية وعاقلة بآن، كما أنها ثابتة ومتحولة بآن. ذلك أن جوهر العمل الفني هو التكامل الخلاّق، تعدل فيه العقلانية الحدسية، وبإزاء الثابت يتوازن المتحوّل. وذلك في علاقات العناصر ببعضها مثل الخط واللون وتنظيم الفُسحة وإروائها بالتعبير صعوداً حتى الإدهاش.
ومن هنا تحتاج أعمال فناننا إلى قراءة أكثر تفصيلاً:
في الخط: يكون الخط في أعمال نصر ورور مقرّراً لكل جلسات اللون، فهو يضبط الجذوع والفروع في الاتجاهات الكونية الأربعة ممهداً دروب النسغ الصاعد الهابط، وهذا النسغ هو اللون المبجَّلُ، وأقصد باللون المبجّل: الذي ينال حظوة فائقة في العمل. الخط واضح كالضوء، معبّر كالسيف، يرسم الحدَّ كما يفعل رابوب النجّار، يتنحى بإرادة قائلاً للون تفضل، ويترك له الحديث. في اللون: في عمل نصر ورور يُشكّل اللون صفيحةً من معدن جوهري مُضاءة من خلفها ومن قدّامها بتحوّلات النهار. وتلك الصفيحة مموّهة بميناء سيميائي، هندسياً كان، بلّورياً أم مشرقطاً، ولكنه تمويه محسوب الصنعة جلياً كالشجر المغسول بطلائع مطر تشرين، فالسماء تبقى سماءً ولو في أسفل اللوحة، والأرجوان ترتديه الأرض وترتديه أبراجُ المدينة.
لله دَرُّك يا نصر، أنت تأتي من حضارات الأمس لامساً فضاء إنسان اليوم وتجلياته؛ وهذا كلام يحتاج منا إلى بعض الاستفاضة:
ما أردت قوله بالنسبة لحضارات الأمس، فقصدي ينصبُّ على المنمنمات العربية في الحقبة العباسية، ففي تلك المنمنمات أخذ المسلمون والسريان ينسخون مخطوطاتهم ويصورون في صفحات منها مخصصة للرسم الملوّن بأسلوب ركّز على استعمال الخط واللون المُعبّرين عن المعنى المطروح في نصوص المخطوط (أعمال الواسطي ومدرسة الموصل ومدرسة بغداد. الصفحة الواحدة لا يتجاوز طولها ٥٠ سم).
وقصدي أيضاً ينصبُّ على الجداريات في الحقبة الأموية والتي بقي منها نماذج مهمة في بلاد الشام، وكان أسلوبها يتعاطى مع الخط واللون بشكل يدعم أحدهما الآخر في التعبير عن الموضوع (جداريات قصر الحير وقُصَيّرعَمرة، وهي جداريات تبلغ واحدتها بضعة أمتار). إنما في تركيز نصر ورور على الخط واللون فهو يُلمِحُ لي مذكّراً بتلك الأعمال العربية والشامية. وهو وإن كان قد استوعبها بشكل أو بآخر إلا أنه لا يستخدمها بنهجٍ استمراري للتقليد القديم بل هو، في أعماله اليوم، يعبّر عن رؤية يتوجه بها إلى الإنسان المعاصر، الإنسان الذي يتذوق فن التشكيل بمدلول التعبير والسر والصيغة التقنية المعاصرة. ومن ناحية أخرى فليس غريباً أن نصراً لم تستهوه الإغراءات (الموضوية)، ولم ينجرف نحو الرفض العبثي لمسيرة الفن العربي المعاصر، المسيرة المتواضعة بمحاولات راسخة وتجارب لأفراد في طليعة المعاصرة العارفة بفنون الغرب والواعية بما في جيناتها من بكور الرؤية الحاذقة التي رواها العاصي ودجلة وأمدّاها برطوبة الاتزان.
ويقولون: ما سمة الفن العربي المعاصر؟ أقول: لا، ليس هناك فن عربياً معاصراً ولا سوريا.. نقطة على السطر! ولكن وطالما أصبح للفن العالمي صفة الشمول، فالسؤال أصبح مختلفاً: فنٌ أم لا فن..
وإذا كنت أنا راصداً لحركة الفن التشكيلي السوري منذ مطلع القرن العشرين، أقول:
لقد وُجد من مهَّد لطرائق وابتكارات كان لها أن تتنامى في الحداثة منذ ستينات القرن، وكان من الفنانين من قال كلمته في الهوية والانتماء.
إن فناننا نصر ورور، يأتي من كلام قيل في الفن السوري، وإنجازات حصلت فيه.. ويبقى نصرٌ يغرّد منفرداً، وهو يحمل الراية في القلم والريشة.
دمشق في آب 2010
أ. الياس الزيات
Comments